الموانئ الفينيقية والبونية. الجيومورفولوجيا و البنية الاساسية
تمتد السواحل التونسية المشرفة على حوض البحر الأبيض المتوسط على قرابة 1300 كلم وقد وفر هذا الشريط الرابط بين طبرقة بالشمال الغربي ورأس جدير بالجنوب الشرقي أرض نجاة للبحارة الذين يرتادون ضفاف هذه الربوع منذ العهود القديمة.
وكان القرطاجيون أول من أعطى للبلاد التونسية بعدها المتوسطي حين وقفوا أمام الزحف الاغريقي الذي بدأ يهدد، منذ بداية القرن VIII ق. م، المصالح التجارية الفينيقية بالحوض الغربي للمتوسط. ولعل تجمع فينقيّ صقلية بمستوطنات بانرموس وصلويس وموتيا بالضفاف الغربية للجزيرة أو تأسيس قرطاج لمستوطنات ابيزا بجزر الباليار شرقي اسبانيا سنة 650 ق. م، أو أيضا تحرك الأسطول البحري القرطاجي سنة 600 ق.م لمحاولة منع تأسيس مستوطنة فوسي (مرسيليا اليوم ) على مصب نهر الرون، إضافة إلى العمليات العسكرية البحرية بالبحر التيريني زمن حكم مالكوس والماغون الأوائل، فجميع هذه التحركات البحرية تبرز جليا حرص قرطاج على مواصلة لعب دور المدينة الأم صور في مراقبة المسالك التجارية البحرية للمعادن بالمتوسط الغربي.
إن سقوط مدينة صور سنة 574 تحت ضربات البابليين مهد لقرطاج لتصبح القوة الحامية للمستوطنات الفينيقية بالغرب. وقد أهل الأسطول البحري العسكري قرطاج لهذا الدور الجديد ولعل نجاحه في المعركة البحرية ضد الأسطول الإغريقي الفوسي إلى جانب الأسطول الإترسكي بواقعة آلاريا بمياه كرسيكا سنة 535 دليل على نجاح قرطاج في تقمص الدور الجديد .
إن خيبة هيمراس بصقلية سنة 480 لم تمنع عزيمة قرطاج في مواصلة دورها الجديد, ولعل عودتها القوية في النصف الثاني من القرن V ق.م من خلال إعادة هيكلة أسطولها العسكري و التجاري إلى جانب قوتها البحرية، دليل على ذلك. فالرحلات البحرية التي قادها كل من حنون و خيملك إلى المياه الأطلسية الجنوبية و الشمالية, ثم إعادة السيطرة على الثلث الغربي لجزيرة صقلية سنة 410 ق. م المؤيدة بمعاهدة 383 ق. م مع دينيس الأكبر حاكم صرقوصة مع إحكام السيطرة على سردينيا و جزر البليار، هي علامات كبرى على العودة القوية لقرطاج إلى المجال البحري. هذه العودة أهلتها لتصبح سيدة البحار بالمتوسط الغربي, دور سيلازمها إلى مشارف اندلاع الحروب البونية في القرن III ق.م.
وانطلاقا من هذا المنظور فإن البحرية القرطاجية مثلت حجر زاوية قوة قرطاج. فالوحدات البحرية و الموانئ و التجهيزات المادية و البشرية شكلت قواعد هذه المؤسسة البحرية.إلى جانب ذلك فإن السياسة البحرية التي سلكتها الدولة أعطت لهذه المؤسسة جميع الأدوات السانحة لتضطلع بهذا الدور الريادي سواء كان ذلك أثناء فترة تأسيس الدولة و مرحلة الانتشار أو فترة الازدهار و الإمبراطورية البحرية القرطاجية الممتدة على القرن IV و بداية القرن III ق.م. حتى زمن التراجع الذي شهدتها الأنشطة البحرية العسكرية القرطاجية فإن الدولة لم تتوان عن تجهيز العاصمة قرطاج بميناء عسكري لا تزال ملامحه بارزة إلى اليوم لزوار قرطاج صلامبو بضاحية تونس الشمالية.
وكانت البحرية القرطاجية تملك العديد من الوحدات العسكرية أحادية صف المجاذيف و متعددة صفوف المجاديف. و يعود تنوع الوحدات البحرية إلى التطور التقني الذي عاشته ورشات بناء السفن, إذ تم الانتقال من السفن الحربية ذات الصف الواحد من الجذافين خلال الفترة العتيقة إلى السفن المتعددة الصفوف أو الطوابق خلال الفترتين الكلاسيكية والهلنسيتية. فضمن المجموعة الأولى نجد الإيكسور (سفينة ذات 20 جذاف ) والترياكونتورس (سفينة حربية ذات 30 جذاف ) أو أيضا البنتكنتورس (سفينة ذات 50 جذافا) إضافة إلى السفن الصغرى السريعة مثل اللمبوس و "السراقة" جميع هذه الوحدات يطلق عليها أيضا بالوحدات البحرية الصغرى. أما الصنف الثاني أي الوحدات البحرية الكبرى ذات الصفوف المتعددة أو الطوابق من الجذافين فمنها نجد الثلاثية(الترييارس) و الرباعية(التترارس) و كذلك الخماسية(البنتارس) أي وحدات بحرية ذات ثلاثة طوابق، أربعة طوابق و خمسة طوابق من الجذافين.
وكانت الدولة تشرف على بناء الوحدات البحرية وخاصة الكبرى منها و قد ذاع صيت بناة السفن القرطاجيين في هذا المضمار. من ذلك أن هؤلاء لم يكتفوا بتصنيع ابرز الوحدات البحرية المنتشرة في المتوسط بل ساهموا أيضا في تعويم وحدات بحرية جديدة مثل الرباعية أو التترارس التي تم تصنيعها في القرن الرابع ق.م.
فإلى جانب الرباعية قرطاجية الصنع مثلت الخماسية الصرقوسية الصنع الوحدتان البحريتان العسكريتان الأكثر انتشارا لدى القوى الحربية البحرية في المتوسط خلال الفترة الهلنسيتية.
وقد ساهمت وحدات الصنع بميناء قرطاج الحربي بقسط كبير من الوحدات البحرية الحربية التي امتلكها الأسطول القرطاجي. بخاصة منها الوحدات الكبرى كما ساهمت المحطات البحرية الإفريقية و الأسبانية و الجزيرية في مجهود الدولة الحربي البحري كلما دعت الحاجة إلى ذلك. فورشات صنع السفن بالمواني الإفريقية مثل هيبوديارهتوس(بنزرت), أوتيكا, ( تونس) أو أسبيس (قليبية ) و حضرموت (سوسة) و قرقنة تساهم بالخصوص في بناء الوحدات البحرية الصغرى. وكان يمكن أيضا للدولة أن تستنجد بالخواص من خلال تسخيرها لسفنهم الحربية كما هو الشأن بالنسبة للسفن التجارية الخاصة لنقل العتاد و الجنود والمركوب. وإذا كانت عملية تسخير سفن النقل الخاصة تعود إلى القرن VI ق.م فإن السفن الحربية الخاصة تم الاعتماد عليها بالخصوص زمن الحروب البونية أي خلال القرن III وبداية القرن II ق.م. فسفينة حنبعل الرودسي وقع تسخيرها مثلا خلال العمليات الحربية البحرية التي جرت في الحرب الأولى و التي تمكن صاحبها سنة 250 ق.م. من خرق الطوق المضروب على القاعدة العسكرية القرطاجية ليليبايوم (مرسلا اليوم) غربي جزيرة صقلية.
الوحدات الحربية البحرية الصغرى



تعليقات
إرسال تعليق
للاستفسار اكتب تعليق